الثلاثاء، 10 مارس 2020

المطر یغسل العالم والموسیقى كذلك






أیتھا الأم 
نحن أبناؤك 
استمعي إلى دعائنا 
استمعي إلى أصواتنا 
لقد جئنا إلى ھذا العالم من رحمك 
ولكي نحیا فیھ بانسجام 
لكنني لا أعرف 
لماذا نتحارب 
ولماذا نعمل على تدمیرك ِ.

" من أسطوانة "المستقبل العتیق" ***

Inti César MalásquezPhilip Martin ‎– The Ancient Future


على غیر العادة كان شارع الكورنیش وخاصة في الجزء المؤدي إلى فندق "قصر الإمارات" بالعاصمة أبوظبي مساء الثالث والعشرین من ابریل الماضي یضیق باختناق مروري لم یكن مفھوما. ولكن مشھد أولئك الذین كانوا ما زالوا على الشارع الرئیسي ومع ذلك تركوا سیاراتھم للسائقین كي یتولوا أمر إیجاد مواقف ملائمة لھا وأخذوا یجرون على الأرصفة كانوا یتمیزون بشيء واحد مشترك بینھم وھو أنھم یركضون مسرعین باتجاه البوابة الرئیسیة للفندق نفسھ في محاولة للتسابق مع الزمن الذي كان یقترب سریعا من الثامنة. ھؤلاء كانوا أیضا یشتركون في شيء آخر وھو حملھم لبطاقات الدعوة الحمراء التي ستسمح لھم بحضور أمسیة نصیر شمھ ورفاقھ من عازفین جاءوا من أنحاء مختلفة من العالم للمشاركة في مھرجان أبوظبي للموسیقى الكلاسیكیة بعملھم الكبیر "أمنا الأرض" . كنت وصدیقتي أحد أولئك الذین كان علیھم تكبد الكثیر من المعاناة للوصول إلى القاعة الرئیسیة للحفل. لم نجر على أرصفة الكورنیش طبعا ولكن كان علینا إیجاد موقف والسیر طویلا طویلا بین ساحات ومواقف الفندق الفاخر الخارجیة ودھالیزه الداخلیة وعندما اقتربنا من بوابة المسرح أخبرنا المنظمون بعدم إمكانیة الدخول لإمتلاء المسرح على آخره وھكذا أصبحنا ممن حالفھم الحظ لمشاھدة الأمسیة في قاعة جانبیة أعدت لمتابعة الحدث ولكن على شاشة عرض بصریة. وعلى الرغم من أنني سبق وأن سمعت شمھ یعزف على المسرح من قبل إلا أن ھذه الأمسیة بالذات كانت تتمیز بروح أخرى لأنھا حملت بصمة أرواح كثیرة اخترقت آلات العزف المنتمیة إلى تواریخ انسانیتھا وثقافاتھا وصانعیھا وإلى حساسیة الأیدي والأفواه والأرجل التي كانت تعزفھا. من خلال خمسة عشر عازف وعازفة من أكثر من بلد من العالم وأكثر من خمس عشرة آلة موسیقیة كانت موسیقى نصیر شمھ تتخذ لنفسھا ھیئة كونیة وصوتاً عابرا للقارات.. تحدثت التجربة بلغة شفیفة عن الحب والفرح وتآمرات الطبیعة العذبة بكل ما فیھا من كائنات تستأثر بحوار السلام والمحبة والأخوه الكونیة. وكانت أیضا تحمل الصرخات والصلوات والقصائد وتترك تلك الزخة المریرة التي تعاتب الموت والدمار والعنف والخذلان. ومثلما كانت روح نصیر شمھ الموسیقیھ حاضرة كتألیف وعزف كانت على الطرف الآخر طاقة عالیة تنبعث من حساسیة كل عازف مشارك جاء یحمل میراثھ الموسیقي وطریقتھ والصوت أو الایقاع الخاص لآلتھ وكان یعبر عنھ في عزف منفرد یجعل الأنظار تتعلق بشغف بایماءاتھ وھو یتجاوب مع آلتھ بینما الآذان والأرواح تدوخ وھي تحاول التقاط السحر الكامن في كل ھذا . وللذي تابع الحفل كان یمكن أن یلاحظ أن نصیر عزف قلیلا وترك الآخرین یتجلون في نسیج منسجم ومتوازن. تركھم یستلذون بعزف المقامات العربیة والشرقیة التقلیدیة ویحلقون في فضاءاتھا بمحبة واستلطاف واضحین .. وترك الجمھور یقف على نسق آخر یشكل في حد ذاتھ تجربة فریدة لھ كمستمع محاید. أن تسمع مقطوعة "فوق النخل" الشعبیة تعزف بالغیتار أو بآلة لیرا الیونانیة أو بآلة السیتار الھندیة لھو أمر على كل متذوق للموسیقى أن یجربھ حتى یدرك كما ھي ممتعة ومنعشة وكم ھي تشبھ بالضبط الخروج إلى الھواء الطلق أو القفز فوق غیمة. أما نصیر شمھ فقد جعلھ متاحا ومؤثرا في آن من الناحیة الثقافیة والإنسانیة المحضة. 


***
ُ
ربما العالم أجمع بحاجة إلى تجارب مماثلة وربما یكون عزاؤنا ھو أن لدینا مبدعین لدیھم روح المبادرة لفتح أذرعھم للعالم حتى حین یخونھم ھذا العالم بقسوة. أعتدت أن أقول شكرا حین تمسني أیة تجربة تستحق الإحساس بالإمتنان ولھذا أرید أن أترك ھذه الكلمة في مكان لھ قیمة كبیرة بالنسبة لي.. من ھذه الزاویة التي أحبھا كثیرا أقول شكرا لك یا نصیر شمھ على أنك جعلتنا نعود إلى بیوتنا في تلك اللیلة كمن یطیر فوق مجرة.. شكرا لك لأنك جعلت عناء الوصول إلى تلك الأمسیة أمر یمكن احتمالھ وتقبلھ بحب..

الخميس، 15 أبريل 2010

أصدرت مجموعتها الجديدة «ليل ثقيل على الليل» وتشتغل على فيلم سينمائي


نجوم الغانم: كتابتي امتحان للفراغ



الاتحاد الثقافي - تاريخ النشر: الخميس 15 أبريل 2010

عمر شبانة

الحوار معها بسيط كبساطتها وانفتاحها على ذاتها وعلى العالم. في شعرها كما يبدو في كتابتها عموما وفي ديوانها الجديد “ليل ثقيل على الليل” (الصادر ضمن منشورات “قلم” ـ هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، 200 صفحة)، خصوصا، الديوان الذي تهديه إلى “الليالي الوحيدة الجديرة بكل هذا..”، تأخذنا إلى هذا العالم، بل إلى عوالمها التي يمتزج فيها الحب بالخسارة والخذلان والخراب وعالم الصوفية الذي يراوح بين عالم أرضي وآخر سماوي ـ علوي. ففي شعرها اختزال وتكثيف لضيق العبارة الذي ينفتح على اتساع المعنى، وفي شعرها نجد مثل هذا الاختزال في مجموعتها الجديدة: ماء المساء، الأيام المفزعة، الضوء يتسرب في الفضاء ويتبدد، الحكايات تفتح كتابها.. المدن تقرأ، يوميات لوديف، من دفترها ذي الأوراق البنفسجية.

المجموعة السابقة “ملائكة الأشواق البعيدة” كانت مهداة “إلى الحياة.. حتى عندما تقسو”، وكانت أيضا تضج بمناخات الحزن والأسى، مناخات من اختفاء الطائر اليومي المرتقب، ومن غياب الأصدقاء الذين يمدون الحياة بالابتسامة، ومن قمر تبدده الظلمة في مياه الشواطئ، ومن ملائكة تقف على مشارف المدينة محتبسة، ومطر أعمى لا يدري أين يهطل، وعتمة دامسة رغم كل الأضواء، حيث القناديل بلا أرواح. أجواء كابوسية تهيمن على النصوص منذ النص الأول، وتتكثف في صور ومشاهد مختلفة. مرة تكون بصوت الحوار الداخلي، ومرة بالحوار مع الآخر.

قبل هذه المجموعة كانت قد صدرت لها ست مجموعات شعرية: مساء الجنة 1989، الجزائر 1991، رواحل 1996، منازل الجلنار 2000، لا وصف لما أنا فيه 2005، ملائكة الأشواق البعيدة 2008.

وفي الوقت نفسه أعلمتنا نجوم باشتغالها على فيلم جديد تقوم مع فريقها بإنجازه حاليا ومحاولة الانتهاء منه مع هذا الصيف، وكانت قدمت للسينما أربعة أفلام هي: المريد 2008، ما بين ضفتين 1999، آيس كريم 1997، الحديقة 1997.

وهنا كان حوارنا حول الشعر والسينما في تجربة نجوم الإبداعية، وهي التي لا تكف في كل عام عن مفاجأة الساحة بعمل شعري أو سينمائي يترك بصمة في الحياة الثقافية المحلية ويمتد إلى الساحة العربية.

وهذا نص الحوار:

- لديك اليوم سبع مجموعات شعرية، تشكل تجربة متميزة بعوالمها، لنتحدث عن هذه التجربة بدءا من الصوت الأول حتى التشكل الراهن، حيث صارت لديك كلمة ومعنى، وامتلكت ناصية عالمك الذي يجمع تناقضات الإنسان، ضعفه وقوته، فرحه وحزنه، سعادته وألمه، فكيف توصلت إلى هذه المعادلة جسدا وروحا، أو شكلا ومعنى؟

- لكل تجربة بداية، والبدايات تعني الاكتشاف والانكسار والتساؤل والتجريب والتقليد والتلعثم والتردد وتعني أيضا الإصرار والدأب على التعلم والانفتاح على الثقافات والخوف.. هذه المشاعر والتحديات كانت دائما سمة أساسية في تنامي رحلة علاقتي مع الكتابة، وكان كل كتاب انعكاسا لمرحلة تشمل الجوانب الموضوعية من عوامل ثقافية ولغوية وكذلك الشخصية المتعلقة بالذاتي والخاص، وكالآخرين كانت الكتابة بالنسبة لي وخاصة في بداية التجربة هواية وحسب، وبعد ذلك تحولت إلى أمر أكثر جدية، صارت معادلا للوجود ومعنى آخر للحياة وكثيرا ما كانت منفذا للتعبير عن الاختناقات النفسية والوجدانية.

بعيداً عن السيرة

- استنادا إلى تجربتك الشعرية أسأل: كلما كتبت المرأة خصوصا ـ والكاتب عموما ـ صورة شعرية أو مشهدا روائيا يعتبر ذلك نوعا من الاعتراف وجزءا من السيرة الذاتية، وفي شعرك أنت تنطلقين من الواقعي لتحلقي في التخييل، فكيف تؤسسين صورتك من هذين العالمين دون الوقوع في أدب الاعترافات من جهة والجنوح إلى التخييل المجاني من جهة ثانية؟

- أنا لا أكتب اعترافات ولا سيرة ذاتية، وطبيعة الشكل الذي ينتمي إليه ما أكتبه لا يحتمل السرد بالمعنى المطروح في أشكال ابداعية مثل القصة والرواية، إلا إذا كان الأمر مقصودا لأغراض فنية ـ وسأضع هنا خطا تحت جملة لأغراض فنية ـ حيث القصائد تقوم على الصور الشعرية وعلى التعبير المكثف وإن كانت هناك مشاعر مهربة من بين الأسطر، فلأن المبدع لا يمكن أن يصنع تجارب من سراب أو من لا شيء، ولا يمكن أن ينفصل عن وعيه ووجدانه، فنحن ننتمي إلى عوالمنا الواقعية، ولكننا أيضا لا نكتب مذكرات من خلال الشعر والتورط الذاتي في الأدبي يزيده فتنة ويجعله نابضا بالحياة. أما المتخيل فهو أحد العناصر الأساسية للإبداع، وهو مسألة يجب عدم التنازل عنها للحفاظ على مستوى ابداعي متحقق. وبالنسبة لقصيدة النثر، فإن الأمر أكثر تحديا لعدم وجود متكئات وقوالب جاهزة، وهي في الوقت نفسه فسحة لطرح تجربة فريدة وغير مكررة. والخبرة مع اللغة وشكل البناء هي كذلك ذات أهمية لأنها تجعل التجربة واضحة ومتماسكة وعميقة.

الموت والحياة

- تشدك كثيرا كتابة الحياة، ولكن في المقابل أنت تستحضرين صورا من الموت بدرجاته، كيف يجتمعان؟

- لأن الموت بالنسبة لي هو أيضا جزء من الحياة، ربما يكون الجزء الجارح والمؤلم، ربما يكون الملح الذي يحرق الجروح، ربما يكون أكثر من هذا كله، ولهذا السبب حين يأتي وحين يتم التعبير عنه، فإن كل اللغات تكون ضيقة إزاءه.. والموت حاضر في نصوصي لأنه حاضر في حياتي بنفس الدرجة والكثافة.

- يبدو لقارئك أنك تكتبين ببساطة ومن غير مرجعيات وقيود حداثية وما بعد حداثية، إلى أي حد هذا صحيح؟ وأين تكمن خصوصية مثل هذه الكتابة؟

- الكتابة تجعلني في توازن مع العالم وفي حالة من التقبل وأحيانا تضعني أمام ذاتي بشكل مكشوف وكأن المرء يقف تحت ضوء مصباح ذي طاقة كهربائية تتضاعف كلما ذهب إلى الداخل بشكل أبعد.. حين يحدث هذا أي نوع من المرجعية يمكن أن يكون هناك، أي نظريات وأي موضوعيات؟ إذا قلنا إن جوهر قصيدة النثر يجعلك تأتي إليها بدون أسلحة، فإن أي تسلح يمكنه أن يفسد هذا النوع من العلاقة التلقائية ويجعلها ممجوجة وباهتة أو مصطنعة.. قد تكون خصوصية الكتابة التي لا تستند إلى مرجعيات أنها تتعاطى مع البياض التام.. الكتابة هي الفرشاة أو القلم الذي يترك ألوانه تقع للمرة الأولى على البياض.. لا أحد يدري أي لون سيكون أكثر حضورا من الآخر، وبالطبع ليست هناك قياسات جاهزة لأخذها بعين الاعتبار.. المساحات الفارغة من البياض الفارغ وأنت.. أي مواجهة هذه، أي امتحان؟

الشعر في السينما

- سينمائيا، في حقيبتك عدد من الأفلام الوثائقية، وأنت هنا تحضرين كشاعرة أيضا، وفي هذا رؤية للعلاقة بين الشعر والسينما، فهل هي الرؤية الفكرية أم الجمالية، وربما كلاهما معا، وأين يجتمعان؟

- الأمر مثل لقاء النهر بالبحر أو العكس، في النهاية يمتزج الماء ولا يعود بالإمكان فصلهما.. لكن يجب أن لا يفوتنا أن المسألة لا تكون بتلك البساطة قبل أن يحدث هذا الالتقاء.. الرؤية الجمالية هي نقطة اللقاء ، قبل ذلك يبدو الأمر مستحيلا لأن إنجاز العمل السينمائي لا يمكن مقارنته مع إنجاز العمل الشعري. لقد سبق أن ذكرت أن كتابة قصيدة لا يتطلب منك سوى الورقة البيضاء أو جهاز الكومبيوتر الشخصي، والآن أصبح الأمر سهلا بعد أن أصبحت الكتابة ممكنة حتى في الهاتف المتحرك.. أما صناعة فيلم فهي تشبه بناء السفينة وإنزالها في المحيط ثم الابحار، وكل خطوة من هذه الخطوات هي مغامرة.. ولكن المتعة التي يشعر بها المرء بعد مشاهدة فيلم جيد أو قراءة قصيدة جميلة هي واحدة .. الاستمتاع بعمل فني راق والشعور بالسعادة الغامرة .. هذا ما قصدتة بالضبط بامتزاج ماء البحر بماء النهر وعدم القدرة على فصلهما.. الاحساس بجماليات العمل الفني هو واحد، إما أن تحبه وإما أن يعجز عن أن يبني معك جسر محبة.

بالنسبة لي العمل السينمائي مضن وشاق، ولكن الشعور النهائي به شبيه بالشعور النهائي بالقصيدة المنجزة.. مزيج من اللذة والاحساس بالرضا.

- بعد هذه الرحلة مع الشعر والسينما كيف تحددين طريقك؟ كيف تختارين الفيلم؟ ومتى تكتبين قصيدتك، ولا شك أن لديك الكثير لتقوليه؟

- في هذا بالذات الأمر مختلف، الاقتراب من انجاز العمل مختلف. إن العمل على صناعة فيلم تتطلب تجهيز من نوع خاص بينما كتابة القصيدة يمكن أن يحدث أثناء قيادة السيارة أو وأنت متكئ على وسادتك.

الجدير بالأمر هو ما الذي يدفع المرء لأن يقبل على عمل صعب، وهو يستطيع أن يكتفي بالعمل السهل.. أظن أن الاجابة تكمن في مسألة “الحب”.. من الضروري أن تحب الشيء الذي تقوم به، من الضروري أن تضع الكثير من الحب في أي شيء تعمله.. لأنك إن لم تفعل فكيف تتوقع أن يحبه الآخرون؟

بالنسبة للطريق فأصبح واضح والالتزام هو أساس الاستمرار في الانتاج والعطاء، ولن يمكنني أبدا أن أفضّل شكلا على آخر، ولكن يمكن أن أحب شكلا أكثر من الآخر.. لأن الحب بالذات لا يمكن أن يُمنح بنفس القدر والمساوة لإثنين أو أكثر..

- في عملك السينمائي “المريد” توثيق لحالة وتاريخ بقدر ما فيه من الشاعرية في التصوير، سؤالي حول هذا الفيلم واختيارك أنت وخالد هذا الموضوع، هل هو نتاج تفكير في الرجل وحالته الصوفية؟ أم هو تفكير بتاريخ الإمارات؟؟ أم هما الأمران معا؟ وكيف كان العمل عليه؟؟

- فيلم “المريد” هو نتاج عمل طويل كان خالد البدور كباحث وسيناريست قد بدأه منذ الثمانينات عندما كان يجمع فنون الامارات في برنامج تلفزيوني وشعر حينها أن الحلقة التي تم تخصيصها عن المالد لم تكن كافيه وأن شخصية عبدالرحيم المريد كمتصوف لم تعطى حقها تماما.. كنا في مطلع التسعينات نعمل على اختيار موضوع يصلح لأن يكون فيلما وثائقيا ذا بعد اجتماعي وثقافي وفني جدير بالتناول وفي نفس الوقت له علاقة بعالمنا المحلي وتاريخنا واقترح خالد الموضوع وقبلت بأن أخرجه، لكنني لم أكن مرتاحة تماما عندما تبين لي أنني سأضطر لعدم الظهور مع فريق العمل أثناء تصوير طقوس تأدية المالد وهي أساسية في الفيلم. وربما من المهم أن نشكر توفر التكنولوجيا التي سهلت عملية التواصل مع المصورين وحلت المشكلة وبشكل مهني مرض خاصة في ما يتعلق بتصوير المولد النبوي واحتفاليات ليلة المعراج وهما مناسبتان كبيرتان لمن يعرفون ذلك. أما بالنسبة للجوانب الأخرى فكان الأمر صعبا في البداية ومع مرور الوقت صار هناك نوع من التقبل وسرعان ما اعتاد الجميع على وجودي مع فريق العمل بعد أن صرنا نقترب من التفاصيل .. وهنا أخذ العمل يصبح ممتعا على الصعيد الشخصي.

وللعلم فإن “المريد” ليس فيلما ترفيهيا بالمعنى الذي يطالب به الجمهور الباحث عن التسلية وإنما هو وثيقة بصرية عن أحد أهم رواد هذا الطقس الروحاني في المنطقة، ولهذا السبب سيبقى ترويجه مقتصرا على القنوات والمهرجانات المتخصصة والمعنية بالطرح الجاد.

- ماذا عن عملك السينمائي الجديد الذي تقومين بإنجازه؟؟ هل من تفاصيل؟

- أعمل على فيلم وثائقي له علاقة بشخصية محلية تنتمي إلى الأرض والمتغيرات المحيطة بها وتقاوم التحديات بطريقتها الهادئة.. ونحن نقترب من الأيام النهائية في التصوير وسيكون الصيف ممتلئا بوضع الرتوش النهائية عليه.

«حافة الظلمة» قصيدة جديدة ومختارات

من قصائد نجوم الغانم على الصفحة الأخيرة

- نحن ننتمي إلى عوالمنا الواقعية ولكننا أيضا لا نكتب مذكرات من خلال الشعر والتورط الذاتي في الأدبي يزيده فتنة ويجعله نابضاً بالحياة.

لم أر ماء الليل يسيل على النوافذ

لكنني سمعت نقراً متقطعاً

وكأنها الريح تهمس للزجاج

القمر ألقى ثيابه على الحقل

تاركاً ظلالاً غير مفسرة ناحيتنا

انهالت العتمة وأكلت الضوء

من عيوننا

أفقنا وما زالت العتمة تكز

على أصابعنا

لم يظهر أثر للصباح

الغمامة جاثمة على الغرفة

والمصابيح بعيدة

أمد يدي لتفريق الظلمة

وأنتبه أن الستارة

كانت مسدلة طيلة ذلك الوقت.

مختارات

1

التبدد الذي نشبهه

تطاردنا الفصول بأمطارها

وجفاف أطرافها

فنكتوي

بصقيع صباحاتها الموحش حتى البكاء

أو نحترق بهجيرها..

نقول سنتوارى في وحدتنا؛

فتغافلنا الأعوام مهرّبة

دسائسها تحت أبوابنا

ونستيقظ على كهولتنا

حيث الانكسارات تشق خنادقها

تحت جلدنا

من غير أن نجرؤ على ردمها

خشية أن تنهال علينا

أو

تجرّحنا شظاياها.

نترك أرواحنا تستظل

بشموس الأوطان البعيدة

ونخبئ آلامنا في الأزمنة

كي لا تهزنا الغربات

أو نجول في دمائنا كمن يبحث عن

وسيلة للخلاص

الأشعار مائدتنا

ونبيذ اللقاءات التي ننتظرها

من أسبوع لآخر

لكننا كلما نظرنا في عيون بعضنا

احتدمت المسافات

وضل القمر.

نفتش أحلامنا وأدراج أسرّتنا

عما يشبهنا

ونكتشف أننا غير تلك

الكائنات التي تركت

جوارحها تنمو على أشجار الحدائق

وأن قلوبنا قد أصبحت مثقوبة

وخوفنا لابث في حجرته

كالفراشة الدائخة

دون أن تجد من يكترث

لنجدتها.

2

من انتظار لآخر..

هكذا تبعثر ليلها

تنتظرُ لتأتيها المحيطات

وتسامرها نداءات السفن البعيدة.

مأخوذة بزفير الموج

وتمايل النوارس تتساقط في الماء

كالظلال.

تجلسُ بعد أن أهدرتها

مواعيده الخاطفة

وأوجلتها الأسفار

مترقبة رفة ما على الأغصان

وكلما ظنّت أنه سيعود ذات ليلة

ليدع أحلامها تنام على ساعديه

تباعدت بينهما الضفاف

وما عاد أحدهما

يعرف الآخر.

3

كالأطيار ِ

تجيءُ لتبنيَ لها بيتاً

وقـَبلَ أنْ تنتهـِيَ تـَطرُدُها الـْعَاصفـَة ُ

فتتركُ خلفـَها ريشـَها وتـُهاجرُ

ها هي تـُؤثـِرُ هجرَ الأمكنة ِ

بعدَ أنْ طلب َ منها أنْ ترحلَ

وتهزُّ رأسَها للمدى

غيرَ مصدقة.

4

وَحينَ تـَذْهَب ُ الكلمات ُ إلى أكـْوَاخـِها

سـَتفترِش ُ عـُشـْبَ الزَّوايا

مُسْـتـَلِذَة ً بصمت ِ الغياب ِ

وَسَوفَ تطيرُ مِنْ أمامها الجَنادِب ُ

دُونَ أنْ تلحَظها.

5

في الغرفة ِالمُتبقـَّيَة ِ

مِنْ ترِكة ِالحُقـُبِ الذاهبةِ

أجلسُ فوقَ المقعد ِ

بجانب ِالسرير ِ

أغسلُ الجدرانَ بآخِر ِضوء ٍ متبق ٍ

على حافـَّة الروح ِ

أجلسُ على المَقعد المقابل للنافذة ِ

لأرتشفَ كوبَ الشاي ِالأخضر ِ

وأسألُ اللهَ مرة ً أخرى

أن يجعلَ ذهابي

يبدو وكأنهُ محضُ مُصَادفة.

6

قالـَتْ لـَهُ كـُلَّ شيْء ٍ

حتى لم يعُدْ لدَيْها

مَا تمنحُهُ لِأحَد.

http://www.alittihad.ae/details.php?id=21187&y=2010

الأربعاء، 17 فبراير 2010

قبل أن يلتفت أحد

الوقتُ يختبئ بين ثقوب النهار
والمدى الواقف كصورة على بطاقة البريد
أنتَ وهي تقفان أيضا
في دائرة الزمن الكئيب
تبتسمان لأنكما معا
الأعشاب الطويلة تنتفض كموج البحر
لا أحد يدري إن كانت مبتهجة
أم قلقة..
الغراب على قوس الباب
ينظر بمكر.

الاثنين، 15 فبراير 2010

حافة الظلمة

لم أر ماء الليل
يسيل على النوافذ
لكنني سمعت نقرا متقطعا
وكأنها الريح تهمس للزجاج
القمر ألقى ثيابه على الحقل
تاركا ظلالا غير مفسرة ناحيتنا
انهالت العتمة وأكلت الضوء
من عيوننا
أفقنا وما زالت العتمة تكز
على أصابعنا
لم يظهر أثر للصباح
الغمامة جاثمة على الغرفة
والمصابيح بعيدة
أمد يدي لتفريق الظلمة
وأدرك أن
الستارة كانت مسدلة طيلة ذلك الوقت

الأحد، 14 فبراير 2010

الصّباحُ يَبدأُ بلَونِ الغُبارِ


في هذهِ المدينةِ
الأيّامُ تَتَطوَّحُ في الأَزِقّةِ
مثلَ الجِراءِ المُتعبةِ،
الغُبارُ يملأُ أفْواهَنا،
والشّمسُ لم تَعُدْ تُرى
كما يجبُ لها أنْ تفعلَ..
نحنُ أحياءٌ..
أظنُّنا نسيرُ في الأيّامِ
ونكتُبُ لنَتَأكّدَ أنَّنا
هُناكَ قُبالةَ الشّمسِ
التي لم تَعُدْ تُرى..
الصّباحُ يَلْمَسُنا بضَوئِهِ
كمُسافرٍ يَنظُرُ إلى العالَمِ منْ
نافذةِ مَقْصورتِهِ
إنّهُ هناكَ في الأعلى
ونحنُ هُنا
بالْكادِ يُمكِنُهُ أن يرانا.
** ** **

الأربعاء، 10 فبراير 2010

لن أخونَ أحلامي

ندوة "الخطاب البصري في التجربةِ الشّعريةِ والسينمائية "
تنظيم/ دائرة الثقافة والإعلام بعجمان
10 فبراير 2010


حالةُ تأمُّلٍ بقلم "نجوم الغانم"

"نترُكُ خُطُواتِنا على الرَّملِ،
على الثّلجِ،
على الماءِ....
يا إلهيْ كيف أنّنا لم ننتبِهْ أينَ تركْنا أقدامَنا"
** ** ** **
أستيقِظُ في صباحِ أحدِ الأيّامِ لأجِدَ نفسيْ في بهْجةٍ ما.. لا أعرِفُ شيْئاً عنِ التّقْويمِ، ولا الدَّورةِ القمَريّةِ، أكونُ قد نسِيْتُ المُتَعلَّقاتِ المَنطِقيّةَ لحِساباتِ الفُصولِ، وتذكّرْتُ أمراً واحداً؛ هو الشُّعورُ المُسجّلُ في مكانٍ ما في الذّاكِرةِ، عنْ ذلكَ الإحساسِ بالذّاتِ، رُبّما الرّائِحةُ، ربّما درجةُ حرارةِ الجَوِّ، ربّما درجةُ زُرْقةِ السّماءِ، ربّما طريقةُ عُبورِ هَبَّةِ الهواءِ مِنْ شَقِّ النّافِذةِ، إنّهُ الإحْساسُ نفسُهُ الذي يتكرّرُ مرّةً واحدةً في السّنةِ بمجيْء فصلِ الرّبيعِ..
أنتَبِهُ أنّ الرّبيعَ جاءَ باكِراً، وأوّلُ إِحساسٍ ينْتابُنيْ هوَ الرّغْبةُ العارمةُ في الكِتابةِ .. أو رُبما الجُلوسُ على مقْهى على قارِعةِ الطّريقِ؛ لشُرْبِ كوبِ قهوةٍ ساخنٍ، ومُراقَبةِ اهْتزازِ الأشجارِ، أو تَخيُّلِ الجسدِ يرْتفِعُ خارجَ قانونِ الجاذبيّةِ الأرضيّةِ، ويَظهرُ في مكانٍ ما كفِعْلٍ "يوغَويٍّ" * خارقٍ للطّبيعةِ .. بل لِنقـُلْ: إنها الرّغبةُ الأكثرُ إِلحاحاً مِن أيِّ شيءٍ آخرَ .. الكِتابةُ وحَسْبْ.
أنتبِهُ مُجدَّداً لهذا الإِحساسِ، وأتساءلُ: لماذا يحدُثُ الأمرُ بهذا الشّكلِ؟
ثَمّةَ حاسّةٌ غريزيّةٌ تجْعلُنا نعرِفُ مِن مُجرَّدِ اسْتنشاقِ رائِحةِ الهواءِ؛ إن كانَ وهو يعبُرُ إلينا، قد مرَّ بحقْلٍ للزّنبَقِ، أو آبارٍ نِفْطيّةٍ، أو بمزرعةٍ يتِمُّ فيها حرْقُ المخلَّفاتِ الزِّراعيّةِ.. ثمّةَ عَمليّةُ برْمجةٍ تحدُثُ لنا، تجعلُنا نحتفِظُ بصورةٍ بعيْنِها عنِ الشّيءِ، أوِ التّجْرِبةِ الحِسِّيّةِ التي نعيشُها، أوِ التي ساهمْنا نحن بأنفُسِنا في صِياغتِها وحِفظِها في أدْراجِ الذّاكرةِ.. إنّنا نُنشِئُ مجموعةً منَ العَلاقاتِ، ونحرِصُ على تخزينِها في لاوعْيِنا؛ لإعادَةِ اسْتدعائِها فيما بعدُ كذَرائعَ لنا، وأحياناً نُوقِفُ عمليّةَ الإبداعِ عليها..


رائِحةُ احْتراقِ الأغصانِ الجافّةِ في الحُقولِ هي حالةٌ، وليستْ فقطْ تجرِبةً معَ الحَواسِّ، حتى وإنْ كانتِ الحواسُّ قد لعِبتْ دَوراً أساسِيّاً في بلْورَتها .. وهيَ جُزءٌ مِن نشاطٍ يومِيٍّ عاديٍّ في المناطِقِ التي تنْتشِرُ فيها البساتينُ والمزارعُ، أمّا ردّةُ فعلِنا تُجاهَها فهيَ ليستْ عاديّةً تماماً..
بالنِّسبةِ إلينا؛ فإنّ الحالةَ تتَحوّلُ خارجَ إِِطارِها الاعْتياديِّ، حينَ تدخُلُ ضِمنَ الذّاكرةِ الشّخصيّةِ الدّالّةِ على مكانٍ أو حدَثٍ ما، مُرْتبطٍ بمرحلةٍ ما مِن حياتِنا، وتُصبِحُ ذاتَ أهميّةٍ أكبرَ حينَ يزدادُ الإلحاحُ الدّاخليُّ بالرّغبةِ في التّعبيرِ عنها، أو عن ذلكَ التّغيُّرِ الذي يطرَأُ علينا حينَ نتعرَّضُ لتجْرِبةٍ مُشابهةٍ، ويكونُ على شكلِ ردّةِ فِعلٍ فيزيائيّةٍ/عُضْويّةٍ، أو نفسيّةٍ، أو ذِهُنيّةٍ. يُصبحُ للأشياءِ وَقْعٌ فيه الكثيرُ منَ الخُصوصيّةِ والسّرِّيةِ والتّواطُؤِ.. الهواءُ ليس هواءً، واللَّونُ ليسَ كذلكَ دائِماً.. الرّائِحةُ لها هَيئةٌ، وأحْياناً كَيانٌ قائمٌ بذاتِهِ ، نرى أنفُسَنا مُستغْرقينَ في شخْصَنةِ الرّائِحةِ، ودرجةِ الحرارةِ والأصواتِ، وملْمَسِ الأشياءِ ووقْعِها علينا، دونَ أن يكونَ ذلكَ مُتعَمَّداً، وننْتهيْ في نهايةِ المَطافِ بالرّسْم ..
نحنُ في حالةِ رسْمٍ دائِمٍ للمشاعِرِ والأشياءِ ، رسمٍ بالكلِماتِ أوْ بالفُرْشاةِ أو بالكامِيرا.. في حالةِ هَدْمٍ وبناءٍ وتعديلٍ لواقعٍ افْتراضِيٍّ نراهُ وحدَنا.. نهبِطُ إلى مَمالكِنا الشّبيهةِ ببُيوتِ النّمْلِ، أو نَعومُ مثلَ القُندُسِ الذي يختارُ مِياهَ الأنهارِ، لبِناءِ سُدودٍ وأعْشاشٍ، لا يعرِفُ هو نفسُهُ إنْ كانتْ ستَخدِمُ أحداً غيرَهُ، أو إنْ كانَ لما يفعلُهٌ تأثيرٌ بعيْنِهِ على الطّبيعةِ، أو هِجرَةِ الأسْماكِ أو حرَكةِ المِلاحةِ.. لكنّهُ يستيقِظُ ويجْمعُ الأغصانَ ويَعومُ، ويبنيْ ويخرُجُ ويسْتيقِظُ، وهَكذا.. يفعلُ ذلكَ كجُزءٍ مِنْ وُجودِهِ، أو لِتسْليةِ نفسِهِ، أو لرُبما هي حالَةُ صلاةٍ، وفِعلٌ رُوحانيٌّ يفوقُ الوَعيَ السّطْحيَّ الذي يُريدُ أنْ يرى نتيجةً مَنْطِقيّةً تُرضي الفُضولَ العاديَّ .. رُبما يكونُ هُناكَ مُبرّرٌ عِلميٌّ آخرُ ، لا يَهُمُّ ، المُهِمُّ هو هذهِ الحرَكَةُ الدّؤُوبةُ لفِعلِ شيْءٍ..
أحْياناً أظُنُّ أنَّ ثَمّةَ فراغاً في الدِّماغِ _ رُبما يكونُ كبيراً ، رُبما يكونُ صغيراً، رُبما يكونُ مُتَوهـَّماً _ هو الذي يجعلُكَ في مأْزِقٍ مُتواصلٍ معَ هذا الفِعلِ الذي عليكَ الاستمرارُ فيهِ، وهو تَصنيعُ رُسوماتٍ مُتَتابِعةٍ، أو مُلاحَقـَةُ حالاتٍ كأنها تحدُثُ في فيلمٍ سينَمائيٍّ ، الفيلمُ السّينمائيُّ يعملُ بشكْلٍ مُتّصلٍ ، هنا في الرّأسِ، وهنا بينَ الأصابِعِ .. تحتاجُ أنْ تصِفَ الغريبَ الذي هزَّ كَتِفَكَ ليقولَ لك شيئاً بلُغَةٍ لم تفهمْها، وتركَكَ حين رآكَ أنتَ نفسَكَ غريباً عنِ المكانِ، وتتَحوّلَ أنت ذاتُكَ إلى إِشكالٍ على ذاتِكَ..
.... أنت تُريدُ أنْ تفتحَ فمَكَ لتَتكلّمَ، وتجِدُ في حَنْجَرَتِكَ جمرةً بدلاً منَ اللُّغةِ ، تظَلُّ فاتحاً فمَكَ للتّخفيفِ مِن حدَّةِ الألمِ وقَتامَتِهِ .....
..... وعندَما رأيْتَ تلكَ المرأةَ في الزُّقاقِ المُجاوِرِ لبيتِكَ ، هل تتذكّرُها في ذلك اليومِ الذي كانَِتِ السّماءُ تُمطِرُ فيه، حينَ كُنْتَ مجنوناً بحُزنِكَ؛ حين كان يَستبِّدُ بكَ الارْتباكُ؟ أو هل هي الحَيْرةُ؟ هل هو القلَقُ؟ أو فَوضى المشاعرِ، أوِ الكُرهُ للّحظةِ التي كنْتَ فيها ؟ هل هو السّكونُ الذي كنْتَ بأَمَسِّ الحاجةِ إليْهِ.. أنتَ ، هو ، هي ، أنا ، نحن ، هم ، تِلكَ الحالةُ التي لم تكنْ حتى لتسْتطيعَ أنْ تـُسمّيَها!
هذهِ الحالةُ التي لا شكَّ أنَّ لها تاريخاً في تجْرِبةِ كلِّ مُبدعٍ – أُسمّيها للتّسْهيلِ على نفسي حالةَ الشّفافِيةِ- تنتابُنا لأنّنا نَسمحُ لها بأن تقتَرِبَ مِنّا؛ لتَمنحَنا رُوحَها وإِمكانيّاتِها وسِحرَها؛ لِنُكمِلَ الصّورةَ التي بدأَتْ في مكانٍ ما في ذاكِرتِنا.. قد تكونُ لوَهْلةٍ شبيهةً بالحالةِ الهُلاميّةِ، التي لا اسْمَ لها ولا شكلاً، لكنّ هذا الشيءَ الذي نجتَهِدُ لمَنْحِهِ الحياةَ، هو أيضاً يجتهِدُ معَنا، ويبدأُ في التّشَكُّلِ حين يكونُ علينا صِياغتُهُ بأُسلوبٍ أو بآخَرَ، لا لشيْءٍ بل لنفهمَهُ، أو لنُلقيَهُ عنْ كاهِلِنا لنَستريحَ.. نحنُ نختنِقُ بمَشاعرِنا حينَ تضْطَرِمُ، ونشقى بسببِ ذِكرياتِنا، وعزاؤُنا أنّنا نمتلِكُ الوسيلةَ للتّعبيرِ عنها.. لدينا عُيونٌ لترى، وعيونٌ لتَرسُمَ وتـُصوِّرَ..
لقد كانَ الأمرُ بالنِّسبةِ إليَّ في مرحلةِ البِداياتِ بهذا الاخْتِلاطِ بالضّبطِ، خاصّةً حين تتَعلَّقُ المسألةُ بالحديثِ عنِ البَصريِّ، في التّجْرِبةِ الشِّعريّةِ والسّينمائِيّةِ التي أنتميْ إليها.. حالةَ الفراغِ أو الثُّقبِ الموجودِ في مكانٍ ما في الدِّماغِ أوِ وَعْي اليقظة ، سأُسمّيهِ أيضاً المسرحَ الحقيقيَّ للمُتَخيَّل..
بدأَ الالْتِباسُ مُنذُ زمنٍ طويلٍ.. كان الأمرُ في أُولى التّجارِبِ السّينمائِيّةِ التّجْريبيّةِ التي ارْتكبْتُها أيامَ الدِّراسةِ وقبلَها .. هو مُحاوَلةَ خلْقِ قصائدَ أُخرى باسْتِخدامِ الكامِيرا.. كُنْتُ مأخوذةً بالمُجرَّداتِ، ولكنْ جاءَ المُعلِّمُ وقال: لا أُريدُ تجريباً الآنَ، تسْتطيعونَ أنْ تفعلوا ذلكَ بعدَ نيلِ الشّهادةِ، حين لا يكونُ عليّ أن أرى ما تفعَلونَهُ، أمّا الآنَ فنُريدُ أن نختارَ مَوضوعاتٍ تَستقيْ جُذورَها مِنَ الإنسانيِّ المُتعارَفِ عليهِ.. وكانَ في هذا ألَمٌ حقيقيٌّ حينَها، ألمٌ يُشْبِهُ الجـُرحَ العاطِفيَّ.. وقد بدأَ نوعٌ منَ التّرويضِ لنا جميعاً كَطَلبةٍ نذهبُ للتّخَصُّصِ المُركَّزِ.. وكُنّا نتساءلُ: ما هذا الظُّلمُ؟!.. لماذا علينا أنْ نكونَ واقعِيِّينَ بهذه الصّورةِ الفَجّةِ؟!.. كانتْ هذهِ الأفْكارُ –أفكارُنا- في الحقيقةِ هي المَوسومةَ بالفَجاجةِ كُلِّها وللأسَفِ..
اليومَ أقولُ: شُكراً لذلكَ المُعلِّمِ الذي ساهمَ في تعليمي؛ كيفَ أنظُرُ للعاديِّ واليوميِّ والبسيطِ والعابِرِ والمُهمَلِ، وكيف علّمنيْ أنْ أُصْغيَ إلى صوتِ العُشْبِ. وكيفَ أيضاً جعلَنيْ أُفكّرُ مَلِيّاً في كيْفيّةِ تصْويرِ الإحساسِ بوُجودِ جمْرةٍ في الحَنْجَرَةِ بدون صرخة... إنها قصيدةٌ حقيقيّةٌ وعميقةٌ ، رَغْمَ مَظهرِها العاديِّ جِدّاً.
لقد كانَ هذا بِلا شكٍّ في مَصْلحةِ الجانِبِ الشِّعْريِّ أيضاً، والذي كان ينْمو هوَ الآخَرُ جَنْباً إلى جنْبٍ معَ المَعْرفةِ السِّينمائِيّةِ.. وقد ظهرَ تأثيرُ هذا التّدريبِ الذي كان في سِياقِ التّعَلُّمِ، في مجالِ الكِتابةِ السِّينمائِيّةِ، وهندسةِ الصُّورةِ بشكْلِهِ المُكثَّفِ جِدّاً، على بناءِ الصُّورةِ الشِّعريّةِ مِن ناحيةٍ، وساهَمَ في تخْليصِ القصيدةِ منَ الاسْتِطراداتِ، وشوائِبِ المُفرداتِ التي لا ضَرورةَ لها، مِنْ ناحيةٍ ثانيةٍ.
وقدْ ظلَّ التّحدّيْ والطُّموحُ في الوُصولِ إلى البلاغةِ في اللّغةِ، وإِحكامِ القبْضةِ على الحالةِ الشُّعوريّةِ، والتّعامُلِ معَها بوَعْيٍ فنّيٍّ، وإِدارةٍ لُغَويّةٍ مُتماسِكةٍ؛ منَ الهَواجِسِ الدّائمةِ.. هذا التّحدّيْ سيَبقى على الدّوامِ حارِقاً، ومُقْلِقاً طالما أنّ التّجرِبةَ مُستمِرّةً..
الالتِباسُ فيما يخُصُّ البَصريَّ كان فقطْ في البِدايةِ، وارْتبطَ دائِماً بالجانِبِ النّظريِّ، وكان منَ السّهلِ عمَليّاً جرُّ خطٍّ واضِحٍ، أو وضْعُ نُقطةٍ تَفصِلُ بينَ هذا الشّكلِ الفنّيِّ وذاكْ .. ولَطالما تَنازعَتْنيْ في أُولى الأيّامِ الآمالُ الفنّيّةُ والأحلامُ، في المُساهَمةِ في صِناعةٍ بصَريّةٍ منَ المُمكِنِ أنْ تترُكَ بَصمةً ما ، أو أنْ تشفيَ الغليلَ وتُحقِّقَ الأمانيَ في جَوٍّ صِحّيٍّ.
صارتْ هُناكَ علاقةٌ شبيهةٌ بالارْتباطِ الرُّوحانيِّ، أو الصّوفيِّ معَ القصيدةِ، لم تتَحقّقْ بالدّرجةِ نفسِها في التّجْرِبةِ السّينمائيّةِ؛ بسبب الاخْتِلافِ الجَوهَريِّ في التّنفيذِ، والتّعقيداتِ التِّقَنِيّةِ التي تقِفُ حائلاً دونَ ترجمةِ المُتَخيَّلِ إلى عمليٍّ بتلك السُّهولةِ المُتحَقِّقةِ في الشّعرِ.. المسألةُ ليستْ بهذهِ المُعادَلةِ الرّياضيّةِ القاطِعةِ والمُنْجَزةِ معَ القصيدةِ، لكنّها بهذهِ الدّرجةِ منَ الوُضوحِ والمُباشَرةِ، وبهذهِ المنطِقيّةِ الحادّةِ في السّينَما..
إنَّ النّجاحَ المُتَحقِّقَ نِسْبيّاً معَ القصيدةِ، بقيَ دافعاً ومُحفِّزاً ومُحرِّضاً على الوُصولِ إلى شكْلٍ، تتحقّقُ فيه مُسْتوياتٌ ضَروريّةٌ وأساسيّةٌ منَ النُّضجِ الفنّيِّ على الصّعيدِ السّينمائيِّ . تعلّمْتُ فيما بعدُ أنَّ التّركيزَ على التّجرِبةِ الذّاتيّةِ وتطويرّها، هو بحَدِّ ذاتِهِ مُساهَمةٌ مسئولةٌ باتِّجاهِ الأهدافِ الكبرى والجادة وأنّ اللُّهاثَ مِن أجلِ الوُصولِ بالسِّينَمائيِّ إلى مُستوى الطُّموحِ، وفي حُدودٍ مِهَنيّةٍ مُتقدِّمةٍ هو مَشروعٌ ليس فرديّاً، وإنما هو مَسئوليّةُ مُؤَسّسةٍ، وأنّ الإصْرارَ على تَجاهُلِ هذهِ الحقيقةِ أو إنكارَها هو نوعٌ منَ الانْتِحارِ والمُكابرَةِ الطُّفوليّةِ .. لا يمكِنُ بأيِّ شكلٍ منَ الأشْكالِ، منَ النّاحِيةِ العمليّةِ، أنْ يُشبهَ السّينمائيُّ الشِّعريَّ؛ لأنّ الإمكانيّاتِ المُحرِّكةَ غيرُ مُتكافِئةٍ، وبالتّاليْ فهناكَ عدَمُ عدالةٍ؛ ليس فقطْ في الحُكْمِ على التّجرِبةِ، وإنما أيضاً في كلِّ ما هو مُتعلِّقٌ بالتّفاصيلِ الإنْتاجيّةِ.. أنت إذنْ مضْطرٌّ لتقْديمِ التّنازُلاتِ على الكثيرِ منَ الأصْعِدةِ في السّينما؛ وفي الإبْداعِ يجبُ أنْ لا تُقدِّمَ أيّةَ تَنازُلاتٍ..
لكيْ تبنيَ الصّورةَ الشِّعريّةَ أنت لا تحتاجُ سِوى لقلمِكَ وورقتِكَ، أو لكُومبيوتَرِكَ؛ ولكنْ لبناءِ صورةٍ سينمائيّةٍ قد يكلّفُكَ الأمرُ كرامتَكَ ..
عندما تجِدُ نفسَكَ مضْطرّاً لرَجاءِ الآخرينَ لكي تُبدِعَ؛ فإنّ هذا أسوأُ أمرٍ يمكِنُ أنْ يحدُثَ لك في حياتِكَ.. هل تقبلُ أم تُساوِمُ أم تنسحِبُ؟
الإجابةُ بيدِكَ وهي قاسِيةٌ..
على أيِّ حالٍ؛ فلَقدْ ظلّتِ الكِتابةُ بالنِّسبةِ إليَّ شأناً تِلْقائيّاً ، يحدُثُ بصُورةٍ عفْويّةٍ خالصةٍ، وأستطيعُ أنْ أقولَ: إنّ تَراكُمَ التّجرِبةِ جعلَ التّحكُّمَ في الحالَةِ بالِغاً .. السّينما ليستْ كذلكَ على الإِطْلاقِ، لقد باتَتْ تُفْسِدُ عليَّ أحلاميْ، وخُصوصيّةَ ذِكْرياتيْ معَ الأشياءِ، وطريقةَ إِحْساسيْ بها، ولكنّني أظَلُّ أشتاقُ لها، وأحلُمُ بها مِن جديدٍ، ومِن جديدْ.. وحينَ أشعُرُ بالوَحْدةِ الشّديدةِ التي تُسبِّبُها عُزْلةُ الكِتابةِ؛ فإنّ الخُروجَ للعملِ معَ الآخرينَ، هو فُسْحةٌ ثمينةٌ للشُّعورِ بالحياةِ، وإِنجازِ شيءٍ مُشتَركٍ معَ الآخَرِ.. ولكنّ الإحْساسَ الخَفِيَّ بوجودِ شريطٍ حولَ كاحِليْكَ ،يمنعُكَ مِنْ أخْذِ خُطوةٍ أطولَ للأمامِ؛ هو إِحساسٌ محبِطٌ، وغيرُ لائقٍ بالفنِّ.
في المقابِلِ، وعلى صعيدِ القصيدةِ؛ فمُنذُ بدايةِ اكْتشافي لسِحْرِ الكِتابةِ، وإصراريْ على أنْ أكونَ كاتبةً، كانتْ هناكَ زوايا ومَفاصلُ في التّجرِبةِ على امْتِدادِها، والتي يصِلُ عُمُرُها الآنَ إلى ما يزيدُ على ثلاثينَ عاماً.. رُبما كانتْ هناكَ أوهامٌ شخصيّةٌ، وتعثُّراتٌ في العلاقاتِ، وتحدِّياتٌ في الشكْلِ الفنّيِّ، الذي كانَ المرءُ يُريدُ أن يكونَ هو مجالَ إبداعِهِ.. كانتْ هناكَ حروبٌ تافِهةٌ تمّ بسببِها تصنيفُنا ( أرجو أنْ لا تكونَ ظِلالُها مُستمرّةً حتى هذا اليومِ) لكنْ على الرَّغْمِ مِن كلِّ ذلكَ؛ كانتِ الكِتابةُ هي المتّكأَ الذي لم يكُنْ له ليدخُلَ في لُعْبةِ المُساوَماتِ.. وكان يشتدُّ الهُجومُ علينا مِن زُملائِنا، وتشتدُّ رغبتُنا في الإنتاجِ والتّعلُّمِ، والتعبيرِ عنْ حقِّنا في اخْتيارِ طريقةِ الكِتابةِ، وشكْلِ قصيدتِنا .. أظُنُّ أنّ وجودَ مُلحَقٍ ثقافيٍّ مِثلَ "مُلحقِ الخليجِ الثّقافيِّ"، على رأسِهِ رجلٌ فاضلٌ مثلُ الدّكتورْ "يوسُف عيدابي" في ذلكَ الحينِ، لعبَ دوراً كبيراً في ترسيخِ أقدامِنا على أرضيّةٍ صُلْبةٍ، ومُساعدَتِنا في الشُّعورِ بالطُّمأنينةِ .. كان هذا أحدَ أهمِّ نُقاطِ الدّعْمِ التي قـُدِّمَتْ لجيلِنا في ذلكَ الوقْتِ، وقٌدِّمتْ لقصيدةِ النّثرِ الجديدةِ.. شُكراً له على ذلك..
كانتْ مجلّةُ "كلمات" الفصليّةُ، التي ظلَّ يُشرفُ عليها الشّاعرُ البحرينيُّ قاسمْ حدّاد، رافداً آخرَ، ونافذةً سرَّبْنا مِن خِلالِها نصوصَنا، واستقبلْنا نُصوصَ الآخرينَ مِن كافّةِ أرجاءِ الوطنِ العربيِّ، وشعَرْنا أننّا كنُا دائماً في المركزِ؛ رَغْمَ كلِّ الدّعاوَى التي كانتْ تسْتلِّذُّ باعْتبارِنا أبناءَ ثقافةِ الأطرافْ..
بالنّسبةِ إليَّ شخصيّاً؛ فقد كان نشرُ ديوانيَ الأوّلِ كاملاً في مجلةِ "مواقف" التي أسّسَها، وكان يرأَسُ تحريرَها الشّاعرُ الكبيرُ "أدونيس" محطّةً أُخرى في تجرِبتي شعرْتُ إِثرَها بأهميّةِ مَشروعيَ الإبْداعيِّ، وبالجَدوى الحقيقيّةِ للكِتابةِ، وبالمزيدِ منَ الثّقةِ بالنّفسِ .. شعرْتُ إثرَها بأنّ اخْتياريْ لقصيدةِ النّثرِ كشَكلٍ فنّيٍّ، كان قراراً صائباً ومناسباً، ووجدْتُ أنّني لسْتُ بحاجةٍ لأنْ أُثبتَ لأحدٍ أيَّ شيءٍ، وأنّني كنْتُ أنا بنفسيْ أضَعُ عراقيلَ أمامَ نفسي، لم يكنِ الآخَرونَ مسئولينَ عنها.. وكان كافياً لتَهدِئةِ قلقيْ أنْ أشعُرَ بالرّاحةِ والانسجامِ، وأنا أكتُبُ قصيدتيْ، وأشتغِلُ على تطويرِها ورِعايتِها .. في هذهِ المرْحلةِ بالذّاتِ كنْتُ قد بدأْتُ أعمَلُ على تعويضِ غِيابِ الوزْنِ، بالتّركيزِ على مُتَّكآتٍ أُخرى في القصيدةِ، وهي اللّغةُ والدِلالاتُ والوَحدةُ والصُّورةُ..
الصورةُ التي أصبحَتْ في وقتٍ لاحقٍ، مجالاً جديداً وضعَني أمامَ الفرحِ والخوفِ بنفسِ الدّرجةِ..

خُطُواتيْ ما زِلتُ أبحثُ لها عنْ موطِئ ٍ، أعرِفُ أنّني لم أُحقِّقْ سوى النزرِ اليسيرِ مِن أحلاميَ الحقيقيّةِ في المشروعِ الشعري والسّينمائيِّ.. أتمنّى فقط أنْ لا أُضْطرَّ للتّنازُلِ أبداً، وأعرِفُ أنّ السّماءَ تفتَحُ ذِراعَيها بمحبّةٍ لأحلاميْ.. وأعرِفُ أنّ هناكَ الكثيرَ منَ الأصدقاءِ الذينَ يُؤمنونَ بأنّنا قادرونَ على الحُلُمِ بشكلٍ مختَلِفٍ.

*هامش: نسبة إلى كلمة " يوغا"